تطوير المستوى المهني والحرفي

  

          تعاني الصناعة في مصر بعجز شديد في الأيدي العاملة المدربة و الفنيين. فنظام التعليم ينصب نحو تأهيل الطلاب للالتحاق بالجامعات، مع أن نسبة اللذين يلتحقون بالجامعات حوالي 20%. و بالتالي يكتظ سوق العمل بأعداد هائلة كل عام لم تتلقى تعليما مهنيا يؤهلها لممارسة أي مهنة أو حرفة. و نظرا للتكاليف العالية لإقامة المدارس الصناعية و المعاهد الفنية المتوسطة، فلم تتمكن الحكومات المتعاقبة من التوسع في هذا النوع من التعليم بما يتمشى مع احتياجات الصناعة.

          و الحقيقة أن إيجاد الكوادر من الفنيين و العمالة المهرة والمتخصصة لا يحتاج بالضرورة إلى إنشاء مدارس ومعاهد يقضى بها الطلاب فترة قد تصل إلى 3 سنوات أو أكثر، بل الأمر يتطلب توسيع برامج التدريب المهني و تنظيم و تقنين المهارات لممارسة الحرف و التخصصات المهنية المختلفة. و لتوضيح الصورة عن النظام المقترح نضرب لكم مثال رخص القيادة. فهناك امتحان عملي و نظري لابد من اجتيازه ليكون الشخص مؤهلا لقيادة سيارته الخاصة مثلا،  و يهمنا هنا أن نلاحظ ما يلي :

1-  تعدد أنواع أو مستويات رخص القيادة مثل رخصة قيادة سيارات النقل الثقيلة وأخرى لحافلات الركاب.

2-   امكانية تلقى التدريب في العديد من مدارس قيادة السيارات إذا أراد الشخص ذلك.

3-   اشراف إدارات المرور على الامتحانات وإعطاء التراخيص ومراقبة ممارسات حاملي رخص القيادة، و اتخاذ الإجراءات التأديبية ( تصل إلي سحب الرخصة) في حالة إساءة قيادة السيارة و عدم احترام القواعد المنظمة لها.

4-   دخول امتحان القيادة متى أراد الشخص.

 

          وهذا النموذج يمكن تطبيقه على العديد من المهن والحرف مع بعض الاختلافات. فمثلا من الممكن أن يشترط  عدد معين من سنين الخبرة في مجال مهني أو حرفي معين قبل التقدم لاجتياز امتحان يؤهله لمستوى حرفي أعلى. و يمكن أن يتم تقنين مستويات ممارسة المهنة ومسؤولية الامتحانات بالتنسيق بين النقابات و الوزارات المعنية. ومن الممكن أيضا أن تتكون رابطات للتخصصات الفنية النادرة وهي التي تحدد أصول ممارسة المهنة وتشرف على الدورات التدريبية و تعقد امتحانات التراخيص للمهنة.         

 وسنحاول توضيح النموذج الأخير من خلال مثال قصصي يعطي تصورا عن كيف يمكن أن تتطور مهنة بسيطة لتصل إلى المستوى المطلوب في القرن الواحد و العشرين.

           كان أحمد يمتلك محلا صغيرا لبيع طيور الزينة و كان يحب أن يقرأ كثيرا عن تربية هذه الطيور. و كان يقف مع رواد محله من الأطفال و الهواة، و يعطي لهم دروسا في تربية طيور الزينة. ثم ألف كتابا عن طيور الزينة ليفيد غيره من خلاصة تجاربه و يستفيد بما قد يعود عليه من مبيعات الكتاب. فذاع صيته ونمت تجارته، و أصبح ينظم دورات تدريبية للهواة و الأطفال و المدارس و يعطي شهادات لمن يجتازها. وجذبت تجربته أنظار زملائه من أصحاب محلات طيور الزينة، فمنهم من استطاع أن يعمل دورات مشابهة ومنهم من اتصل بأحمد للاستفادة من خبرته.

           و أخيرا قرر أحمد و بعض زملائه تكوين رابطة لطيور الزينة، وأصبحت شهادات التدريب تعتمد من الرابطة، و المواد التي تدرس في الدورات موحدة طبقا لما تقرره الرابطة. و أخذت الرابطة على عاتقها نشر الوعي بطير الزينة لتوسيع قاعدة هواة هذه الطيور. ومن الناحية الأخرى تعمل الرابطة على تنمية و تحسين مهارات العاملين بها. فتعطي دورات تدريبية عن إدارة محلات طيور الزينة، و دورات تدريبية عن إدارة مزارع طيور الزينة، ودورات تدريبية عن معاملة الزبائن و طرق العرض و التسويق لمحلات طيور الزينة، و دورات عن القواعد المنظمة و قوانين استيراد و تصدير طيور الزينة. و حددت المستويات الفنية والخبرات المطلوبة للفنيين العاملين بمزارع طيور الزينة و تنظم امتحانات لتحديد هذه المستويات. و أصبح للرابطة موقع على شبكة الإنترنت،  تنشر وتبيع الكتب وشرائط وأقراص الفيديو عن طيور الزينة من خلال هذا الموقع، و تصدر مجلة دورية لهواة طيور الزينة ولتبادل الخبرات في رعاية طيور الزينة و أسرار المهنة. وغالبا ما تدر هذه المجلات عائدا كبيرا للرابطة عن طريق الإعلانات و أيضا من حصيلة المبيعات، التي تشتريها المدارس و المكتبات العامة بجانب الأفراد. وتقوم الرابطة أيضا بتنظيم معارض سنوية لطيور الزينة وتحرص على أن يكون لها تمثيلا في المعارض الدولية لفتح أسواق جديدة لأعضاء الرابطة.

 

          و هذا المثال يوضح جليا كيف يمكن أن تتحول مهنة بسيطة يحترفها فرد وينمي ممارسته فيها إلى هذا التنظيم و الترابط بما يعود بالنفع على العاملين بها لتواجه تحديات التافس التجاري في القرن الواحد و العشرين. ومن السهل أن ندرك أن من الممكن تطبيق هذه التجربة على عدد كبير جدا من المهن و الحرف.

          و الآن ما هو دور الحكومة في هذه التجربة؟ نؤجل بعض الإجابات للباب السادس.

          و هناك العديد من الجهود الأخرى التي يمكن أن تقوم بها مؤسسات المجتمع وأفراده في التنمية المهنية الحرفية بجانب دور الحكومة في التشريع والإلزام والتشجيع والتنسيق والدعم المادي والفني. ومن هذه الجهود نذكر:


1- فتح المدارس لتقديم برامج تدريبية مسائية في شتى المجالات الحرفية. ووضع النظم الملائمة لإعطاء إدارات المدارس حرية تشغيلها في الأوقات المسائية لخدمة هذه البرامج بما في ذلك الاستعانة بغير أعضاء هيئة تدريس هذه المدارس لإلقاء الدروس التدريبية و تأجير فصولها للدورات التدريبية المسائية.
2- عمل شرائط "فيديو" يتم عرضها بصورة منتظمة في القنوات التعليمية، و تباع بأسعار رمزية لخلق الوعي العام المصاحب للمهن الحرفية مثل الإرشادات الصحية، والإسعافات الأولية، و إرشادات الحفاظ على البيئة وذلك ضروري لرفع المستوى المهني الحرفي. ويتضمن هذا العمل أيضا علي شرائط للنهوض بالصناعات الريفية والإرشاد الزراعي، وصيانة الماكينات الزراعية.
3- إرسال بعثات إلى الخارج لإنشاء كوادر من المدربين على مستوى عالمي.
4- تشجيع تأليف و ترجمة الكتب التقنية و أسرار الصناعة و إدارة المشروعات والتسويق العالمي و طرق تحسين الجودة و غيرها. وتنظم مسابقة سنوية لاختيار أحسن 100 كتاب على الأقل، وتوزع جوائز نقدية علي المؤلف/المترجم، و يتم تدعيم تكاليف نشر هذه الكتب. مع القيام بتشجيع القطاع الخاص لعمل مجلات في شتى المجالات المهنية والتجارية وتشجيع رجال الصناعة على تبني المدارس و المعاهد الصناعية في مناطقهم و الأشراف على إدارتها.
5- تخصيص قنوات تلفزيونيه لعرض البرامج التعليمية و المهنية، و عمل برامج تهدف إلي إبراز الدور الهام لأصحاب الحرف وعمل برنامج إعلامي لدعوة الحرفيين و العمال إلى تحسين الجودة و إتقان العمل.
6- الإكثار من المكتبات العامة، وقيامها بدور فعال في رفع المستوى المهني الحرفي بتوفير النشرات و الكتيبات وأشرطة "الفيديو".
7- إدخال مواد تعليمية و تدريبية في المدارس لتنمية وصقل مهارة الدقة والإتقان في الجيل الناشئ.
8- عمل برامج تدريبية للحرفيين خلال فترة تجنيدهم ليكونوا على مستوى فني عالي عند انتهاء فترة تدريبهم.
9- عمل معرض سنوي ومسابقات بين الحرفيين للأفكار التي تساعد على تحسين المنتج أو زيادة الإنتاج أو تقليل التكلفة، ومساعدتهم على تسجيل براءات الاختراع أو تسويق أفكارهم.
10- تقديم الدعم المادي و الفني و التدريبي لاتحادات المهنية الناشئة، كعمل حضانات لهذه الاتحادات.
11-الاهتمام بتحديد وتطبيق المواصفات القياسية و مواصفات الجودة في شتى المجالات الفنية.
12-الاهتمام ببرامج التدريب الدوري للحرفيين ويمكن توسيع هذا المفهوم ليشمل التنمية الوظيفية بحيث يتلقى جميع العاملين على كل المستويات ما يكافئ أسبوع على الأقل سنويا برامج تدريبية ومحاضرات لرفع مهارات العاملين و تحسين الأداء الوظيفي.
 

وأخيرا لابد أن نشير هنا أن التنمية لا تتجزأ، فالتنمية المهنية الحرفية هي جزء من التنمية البشرية، و التنمية البشرية جزء من التنمية الشاملة. والمقترحات المعروضة هنا لا يمكن أن تنجح تماما على أرض الواقع إلا في إطار التنمية  الشاملة، حيث تتضافر و تتفاعل الجهود لتحقيق منظومة التنمية الشاملة.